أفول شمس الغرب
من المهمّ النظر إلى القضية من منظور تاريخي يأخذ في الاعتبار القرون الخمسة الماضية أو أكثر، حيث نهضت أوروبا الغربية خلال هذا الوقت من حالتها المتخلفة للغاية ببطء إلى استعمار العالم، واستعباد الشعوب من العديد من هذه المستعمرات ونهبها من أجل الموارد، والانخراط في حروب إمبريالية مع بعضها البعض، ومن ثم بدأت في الانحدار البطيء من القرن العشرين حتى اليوم.
كان مفتاح هذا الانحدار والتراجع هو النضالات العديدة من أجل الاستقلال الوطني عن القوى الغربية، حيث بدأت مع أمريكا اللاتينية في أواخر القرن التاسع عشر، وكان ذروة هذه النضالات في القرن العشرين، عندما حصلت بلدان من أفريقيا عبر شرق آسيا إلى المحيط الهادئ على استقلالها. ونجد في عصرنا هذا، أن كلّ هذه الدول المحررة تضع جدول الأعمال الخاص بها بشكل متزايد في جميع أنحاء العالم. وبالطبع، حاول نادي القوى الاستعمارية القديمة التماسك والاستمرار، ولنأخذ الاتحاد الأوروبي، والجهود اليائسة للولايات المتحدة ومكائدها، لكن التراجع كان واضحاً بالنسبة للجميع.
يظهر التركيز على الديناميكيات والتناقضات الداخلية داخل الدول الغربية لماذا أصبح غروب الشمس في الغرب أكثر وضوحاً من أي وقت مضى منذ أوائل السبعينات. وقد نفرق بين القاعدة الاقتصادية، والعوامل السياسية والاجتماعية والثقافية التي تعتمد على هذه القاعدة، ففيما يتعلق بالاقتصاد، كان آخر ازدهار نسبي للبلدان الرأسمالية الغربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. كان العديد من العوامل وراء هذا الازدهار، ولاسيما إعادة الإعمار بعد الحرب، وأيضاً المستويات العالية نسبياً للتصنيع.
وكانت الأزمة الاقتصادية في أوائل السبعينيات بداية الانحدار الأخير، وبينما حلقت معدلات النمو في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي نحو 5-6% انحدر النمو الاقتصادي منذ أوائل السبعينيات. وفي محاولة لإصلاح المشكلات، ثم الترويج للمشروع الغربي لـ”الليبرالية” الجديدة، تمّ بيع الأصول العامة، وإغلاق الصناعات، ووجد البعض أنه يمكن تحقيق أرباح أسرع من المعاملات المالية المشكوك فيها بدلاً من صنع أي شيء، وبما عرف على أنه “اقتصاد وهمي”.
فشل هذا المشروع “الليبرالي الجديد” في إيقاف الانحدار. وبحلول الأزمة الاقتصادية، 2008- 2009، كانت الاقتصادات الغربية قد بدأت في “الانهيار”، كما أنها لم تكن مستعدة للأزمة الاقتصادية التي نشأت في عام 2022، حيث ارتدت محاولاتها لمعاقبة روسيا لتصبح شكلاً من أشكال المعاقبة الذاتية.
كان من المحتّم أن يكون لهذا التدهور الاقتصادي الذي دام 50 عاماً تأثير على الحقائق السياسية والثقافية في الدول الغربية. ومع ذلك، فإن التأثير قد تمّ تأجيله إلى حدّ ما، وإخفاؤه من خلال انتصار التسعينيات، حيث أدى انهيار الاتحاد السوفييتي والثورات المضادة في الدول الاشتراكية في أوروبا الشرقية إلى اعتقاد الغرب بأنه قد انتصر.
أعلن الغرب أن “نهاية التاريخ” قد وصلت، وأن قيمه هي قيم “عالمية”، وأن النظم الاقتصادية والسياسية والغربية هي الشكل النهائي والأعلى للحضارة الإنسانية.
لقد أخفت نزعة الانتصار هذه الحقائق الصعبة على الأرض، ومع تدهور اقتصاداتهم بدأت الأشكال السياسية والاجتماعية والثقافية الغربية في الركود، وأدى ذلك إلى التوقف عن تجديد أنفسهم، وفي الوقت المناسب بدؤوا في التفتت. كانت الحقائق السياسية والثقافية القديمة تتفكك، وأصبحت الانقسامات الاجتماعية أعمق من أي وقت مضى. ولهذه الأسباب نرى الآن في الدول الغربية موجة بعد موجة من الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية والعنف، والجماعات المتطرفة تصعد من أجل الهيمنة، حيث من الصعب أن تجد دولة غربية لا تواجه هذه المشكلات، وبهذا أصبح عدم الاستقرار السياسي هو القاعدة، كما تمزق النسيج الاجتماعي.
وصلت الثقافة الفردية لليبرالية الغربية إلى طريق مسدود، ومع ذلك، فإن الحاضر هو نتيجة الماضي، ويجب أن يكون واضحاً الآن أن عدم الاستقرار، وانعدام الأمان والتنافر في الدول الغربية له تاريخ طويل وراءه.
قد يتساءل المرء هل الشعوب الغربية على وعي بتراجعها وانحدارها؟ هناك العديد من الأمثلة المحتملة، لكن يمكن التأكيد على الخطاب المتزايد لاستعادة “العصر الذهبي” المفقود، والرغبة في استعادة مجد الإمبراطورية السابق، والشعارات السياسية التي تتحدث عن “تحقيق العظمة مرة أخرى”. من الواضح عندما تريد استرداد شيء ما فأنت تعلم على مستوى ما أنه ضاع منك بالفعل.
بعد غروب الشمس تشرق مرة أخرى. بعبارة أخرى، سيحدث في النهاية تجديد للغرب، لكن الأمر سيتطلب جهداً هائلاً للوصول إلى الموارد اللازمة للتجديد، وعندما يحققون أخيراً نوعاً من التجديد، سيكون العالم ومكانهم فيه مختلفين نوعياً.